الحمد لله رب وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد قال الله تعالى:}وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58){[سورة الذاريات]. ولأهمية استقرار هذه حقيقة العبادة في نفس المؤمن؛ لابد من تفصيلها؛ لأنها غاية الحياة، ولأنها المبدأ الأول الذي أنزل الله كتبه، وبعث رسله لدعوة الناس إليه، وتذكيرهم به إذا نسوه أو ضلّوا عنه، ولكشف التحريف الذي صرف هذه الكلمة عن مدلولاتها وحقيقتها .. والله الموفق .
المعنى اللغوي للعبادة : العبودة، والعبودية، والعبدية تعني الخضوع والتذلل والطاعة، أي استسلام المرء وانقياده انقيادًا لا مقاومة له، ولا عدول عنه، ولا عصيان له.
استعمال كلمة العبادة في القرآن: كلمة العبادة وردت فيه-غالباً- بمعانٍ ثلاثة:
المعنى الأول : الطاعة مع الخضوع، كقوله تعالى:} إِيَّاكَ نَعْبُدُ(5){ [سورة الفاتحة] وقوله تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(172){[سورة البقرة] .
المعنى الثاني: التأله والتنسك، كقوله تعالى:} إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي(66){ [سورة غافر]. وقوله تعالى:} بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ(41){ [سورة سبأ].
المعنى الثالث: اتخاذ الرجل عبدًا أو مملوكًا، ومعاملته معاملة العبد قال تعالى:}وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22){[سورة الشعراء]. فمن الظاهر أنه ليست دعوة القرآن إلا أن تكون العبودية، والطاعة، والتأله، كل أولئك خالصًا لوجه الله تعالى، ومن ثَمَّ فإن حصر معاني كلمة "العبادة" في معنى بعينه حصر لدعوة القرآن في معانٍ ضيقة، ومن نتائجه المحتومة أنّ من آمن بدين الله وهو يتصور دعوة القرآن هذا التصور الضيق المحدود؛ فإنه لن يتبع تعاليمه إلا اتباعًا ناقصًا محدودًا.
المعنى الشرعي للعبادة :
أولاً: هو الالتزام بما شرعه الله ودعا إليه رسله، أمرًا ونهيًا، وتحليلاً وتحريمًا، وهذا هو الذي يمثل عنصر الطاعة والخضوع لله .
ثانيًا: أن يصدر هذا الالتزام من قلب يحب الله؛ لأن العبادة المأمور بها تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له، ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدًا له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له.
ثالثًا: التوجه إلى الله بكل عمل ابتغاء مرضاته وثوابه حتى تتميز العادة عن العبادة ففرق بين الإمساك عن الأكل والشرب؛ وقاية من الأمراض، أو لعدم القدرة على الأكل، وبين الإمساك عن الأكل والشرب والشهوات؛ احتسابًا لله عز وجل .
رابعًا: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة: كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، وأمثال ذلك، هي من العبادات لله.
أصناف الناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها وغايتها:
الصنف الأول: الذين ينفون "الحكمة والمقصود والغاية" من العبادة، ويردون الأمر بها لمحض مشيئة الله بلا سبب إلا لمجرد الأمر بها، من غير أن تكون سببًا لسعادة في الدنيا والآخرة في نفسها.
وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها ولا يتنعمون بها، ولهذا يسمونها "تكاليف".
الصنف الثاني: يثبتون نوعًا من الحكمة والتعليل والغاية للعبادة، ولكن يرجع إلى مجرد مصلحة المخلوق ومنفعته، فعندهم: أن العبادات شرعت أثمانًا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وأنها بمنزلة استيفاء أجرة الأجير.
الصنف الثالث: الذين زعموا أن فائدة العبادة: رياضة النفوس، وإعدادها لتلقي العلم، والتجرد من العيوب، ولتخلصها من آفاتها.
الصنف الرابع: وهم العارفون بالله وحكمته في أمره، وشرعه وخلقه، وأهل البصائر في عبادته، وغايتها.
فالأصناف الثلاثة محجوبون عن فهم حقيقة العبادة بما ران عليهم من الشبه الباطلة والقواعد الفاسدة، والعقول القاصرة، وعدم الاهتداء بنور النبوة والوحي. وطائفة أهل التوحيد والفهم لدين الله يعرفون معنى العبادة على حقيقتها وغايتها.
حقيقة العبادة وغاياتها كما فهمها أهل التوحيد والفهم لدين الله :
1 ـ افتقارنا إليه سبحانه وتعالى : فالله تبارك وتعالى لا تنفعه عبادة العابدين، ولا تضره معصية العاصين، ولا يزيد في ملكه حمد الحامدين، ولا ينقصه جحود الجاحدين: }يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(15){[سورة فاطر]. قال عز وجل في الحديث القدسي:[ يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ]رواه مسلم وأحمد.
2 ـ العبادة حق الله على عباده : }يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(22){ [سورة البقرة].
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَاد]ِ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ:[ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ] رواه البخاري مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد .
3 ـ العبودية لله عين الحرية : فهي وحدها التي تعتق القلب من رق المخلوقين وتحرره من الذل والخضوع لكل ما سوى الله من أنواع الآلهة والطواغيت التي تستعبد الناس وتسترقهم أشد ما يكون الاسترقاق والاستعباد، وإن ظهروا صورة وشكلاً بمظهر السادة الأحرار، فما من عبدٍ استكبر عن عبادة الله؛ إلا وقع حتمًا في عبودية غيره.
4 ـ العبادة غذاء الروح :إن القلب الإنساني دائم الشعور بالحاجة إلى الله تعالى وهو شعور أصيل صادق، لا يملأ فراغه شيء في الوجود إلا حسن الصلة بالله، وهي ما سماها الرسول صلى الله عليه وسلم:[حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ] جزء من حديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فَقُرَّةُ عين العابد في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله؛ فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه من ليس له نصيب منه.
5 ـ العبادة ابتلاء إلهي يصقل الإنسان : قال تعالي:} تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(2){ [سورة الملك]. قال تعالي:} أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142){ [سورة آل عمران].
فلا يمكن أن يستوي القاعدون والمجاهدون ولا يعقل أن يستوي الكسالى والعاملون.
بعض الضوابط الأساسية لفهم مفهوم العبادة :
لا عبادة إلا لله سبحانه: قال تعالي:} فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ(30)حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ(31){[سورة الحج].
سد الذرائع المفضية إلى الشرك : كاتخاذ القبور مساجدًا، والحلف والنذر لغير الله، والذبح لغير الله .. الخ.
تحرير العبادة من قيود المكان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[...وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ...]رواه البخاري ومسلم والنسائي والدارمي وأحمد .
الإخلاص أساس قبول العمل : قال تعالي: } قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(11){[سورة الزمر]. ويقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم:[ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى...] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وابن ماجه والنسائي وأحمد .
لا يعبد الله إلا بما شرع : قال تعالي: } وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ(125){[سورة النساء] وقال:} لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(7){ [سورة هود، والملك آية (2)] . قال الفضيل بن عياض- مفسرًا هذه الآية-:} أَحْسَنُ عَمَلًا { يعني: أخلصه وأصوبه. قالوا يا أبا علي: ما أخلصه وما أصوبه؟ قال: إنه إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، ولا يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا والخلاص، أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة:
[صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي]رواه البخاري .
و [لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ]رواه ومسلم وأبوداود والنسائي وأحمد .
و[ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ]رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه وأحمد .
اليسر ورفع الحرج : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ]رواه أحمد.
مقاصد وصور العبادة:
يقول الإمام الشاطبي: "العبادة لها مقصدان أصليان، ومقاصد تابعة، فالمقصد الأصلي منها هو التوجه إلى الواحد المعبود، وإفراده بالقصد إليه في كل حال، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة، أو ليكون من أولياء الله تعالى، أو ما أشبه. ومن المقاصد التابعة للعبادة: صلاح النفس، واكتساب الفضيلة".
ومن صور العبادة :
1 ـ عبادات اللسان: كالنطق بالشهادتين، وتلاوة القرآن وذكر الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وأداء الشهادة، وصدق الحديث، وترك الدعوة إلى البدع والمحرمات كالقذف والسبب والغيبة والاستهزاء والكذب .. الخ.
2 ـ عبادات الجوارح : كالسمع والبصر واليدين والرجلين: فالسمع: كالإنصات لما يحبه الله ورسوله كالقرآن، والعلم النافع، وتجنب الإنصات للكفر والبدع وما ليس فيه مصلحة، أو استماع المعازف واللغو واللهو.
3 ـ عبادة النظر: كالنظر في المصحف، والكتب النافعة، والتفكر في مخلوقات الله، وتجنب النظر إلى الحرام. ويمكن القياس على هذا عبادة اليدين والرجلين والذوق والشم .. الخ.
سؤالان وجوابهما :
السؤال الأول:إذا كانت العبادة تشمل الدين كله ـ كما قال ابن تيميه ـ فلماذا عطف القرآن عليها غيرها من أوامر الدين ونواهيه، في مثل قوله تعالي: } وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى...(36) {[سورة النساء] وقوله على لسان شعيب:} يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ(59){[سورة الأعراف]. وقال:} وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ(84){[سورة هود] وقال:} وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ(85){ [سورة هود] .
فهذه الأشياء المعطوفة على العبادة تدل على أنها غيرها، فإن العطف يقتضي المغايرة، كما هو معلوم، فما تفسير ذلك؟
و الجواب هو : أن عطف الخاص على العام مألوف في العربية، ومأنوس لدى البلغاء، وذلك للتنبيه على مزية في الخاص اقتضت إفراده بالذكر، كأنه جنس مستقل، مع دخوله في أفراد العام، كما أن عكسه أيضًا معروف، وهو عطف العام على الخاص. ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى:} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ(90){[سورة النحل] فنص على إيتاء ذي القربى مع أنه يدخل في الإحسان. وكذلك خص الفحشاء بالذكر مع دخولها في عموم المنكر وكذلك البغي. وأمثلة هذا في القرآن كثيرة.
السؤال الثاني: إذا كان الدين كله عبادة، فلماذا قسم الفقهاء أحكام الشرع إلى "عبادات و"معاملات"؟
و الجواب هو : أن تقسيم الفقهاء الأحكام الشرعية العملية إلى عبادات ومعاملات، إنما هو اصطلاح منهم؛ أرادوا به التفريق بين نوعين من الأحكام:
النوع الأول: يضم الصور والكيفيات المحددة التي شرعها الله تعالى، ليتقرب عباده إليه بأدائها. فالشارع هو المنشئ لها والآمر بها. وليس للعباد فيها إلا التلقي والتنفيذ. وتلك هي الشعائر التعبدية التي لا يخلو دين منها، وبها يمتحن الله عباده، وبها تظهر حقيقة العبودية، حيث لا يبدو للعباد فيها
حظ شخصي لأول وهلة.
أما النوع الثاني: فهو يشمل الأحكام التي تنظم علاقات الناس بعضهم ببعض في حياتهم ومعايشهم ومبادلاتهم. فهذه العلاقات والنشاطات لم ينشئها الشرع، بل هي موجودة قبله. ومهمة الشارع هنا : أن يُعدّلها، ويهذبها ويقر الصالح منها، والنافع، ويمنع الفاسد والضار.
وبهذا يتبين لنا أن موقف الشرع من النوع الأول الذي سماه الفقهاء "العبادات" غير موقفه من النوع الثاني الذي سموه "المعاملات": فهو في الأول منشيء مخترع، وليس من حق غيره أن ينشئ أو يبتدع صورًا للعبادة من عند نفسه لم يأذن بها الله. وقد جاءت بذلك الأحاديث:[ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه وأحمد . وقال:[ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ]رواه مسلم وابن ماجه والنسائي والدارمي وأحمد .
وهو في الثانية مُصلح لما أنشأه الناس وأوجدوه فعلاً, وبناءًا على هذا قرروا أن الأصل في العبادات الحظر والمنع، حتى لا يشرع الناس في الدين ما لم يأذن به الله. أما في العادات والمعاملات فالأصل فيها الإباحة.
وهناك فائدة أخرى لهذا التقسيم، نبه عليها الإمام الشاطبي وغيره، وهي: أن الأصل في جانب العبادات هو التعبد، دون الالتفات إلى المعاني والمقاصد. أما العادات أو المعاملات فالأصل فيها الالتفات إلى ما وراءها من المعاني والحكم والمقاصد. فإذا أمر الشارع مثلاً بذبح الهدي في الحج. فهذا أمر تعبدي لا يجوز تركه والتصدق بثمن الهدي؛ لما في ذلك من تعطيل هذه العبادة الشعائرية.
ولكن إذا حث الشارع على رباط الخيل واقتنائها والاهتمام بها لقتال الأعداء، ثم تغير الزمن وأصبح الناس يركبون للحرب الدبابات والمدرعات بدل الخيل، أصبح الاهتمام بهذه الأسلحة الجديدة هو التنفيذ العملي لما جاء من حث على رباط الخيل، بناء على رعاية المعاني والمقاصد التي تفهم من وراء ما جاءت به نصوص الشرع هنا.. فهذا هو سر تقسيم الفقهاء أحكام الفقه إلى عبادات ومعاملات، وهذا هو أثره. وإن كان التزام أحكام الشرع في كل المجالات هو عبادة بالمعنى الشامل الذي بيناه من قبل .
ضوابط في العبودية والعمل :
ينبغي تعلم حكم "ما يقال أو يعمل" قبل صدوره كما قال ابن القيم: (العبد إذا عزم على فعل أمر فعليه أن يعلم أولاً: هل هو طاعة الله أم لا؟!
1- فإن لم يكن طاعة فلا يفعله إلا أن يكون مباحًا يستعين به على الطاعة وحينئذ يصبر طاعة "أو عبادة".
2- فإذا بان له أنه طاعة فلا يقدم عليه، حتى ينظر هل هو معان عليه أم لا؟ فإن لم يكن معانًا عليه فلا يقدم عليه فيذل نفسه وإن كان معانًا عليه بقي عليه نظر آخر.
3- وهو أن يأتيه من بابه، فإن أتاه من غير بابه أضاعه، أو فرّط فيه، أو أفسد منه شيئًا.
فهذه الأمور الثلاثة:"الطاعة والإعانة والهداية" أصل سعادة العبد وفلاحه، وهو معنى قول العبد لربه: }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6){[سورة الفاتحة] فأسعد الخلق أهل العبادة، والاستعانة والهداية إلى المطلوب. وأشقاهم من عُدِم الأمور الثلاثة.
ومن يكون له نصيب من }إِيَّاكَ نَعْبُدُ{ونصيبه من }وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{معدوم أو ضعيف فهذا مخذول مهين محزون.
ومن يكون نصيبه من }وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {قويًا ونصيبه من} إِيَّاكَ نَعْبُدُ{ضعيفًا أو مفقودًا، فهذا له نفوذ وتسلط وقوة ولكن لا عاقبة له، بل عاقبته أسوأ عاقبة.
ومن يكون له نصيب من }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5){ولكنّ نصيبه من الهداية إلى المقصود ضعيف جدًا، كحال من قل علمهم بحقائق ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق فهذا مصيره إلى الضياع.
مراتب في العبادة :
1 ـ عبادات خاصة: لله على كل أحد عبادة خاصة بحسب مرتبته، سوى العبادة العامة التي سوّى بين عباده فيها: (فعلى العالم من العبادة: نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ما ليس على الجاهل، وعليه من العبادة بالصبر على ذلك، ما ليس على غيره. وعلى الحاكم من العبادة: إقامة الشرع والحق، وتنفيذه وإلزام من هو عليه به، والصبر على ذلك والجهاد عليه، ما ليس على غيره من سائر المحكومين. وعلى الغني من العبادة : أداء الحقوق التي من ماله ما ليس على الفقير. وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز فيهما ..).
2 ـ مراتب العبادة علمًا وعملاً:
مراتبها من حيث العلم مرتبتان:
إحداهما: العلم بالله .
والثانية: العلم بدينه.
فأما العلم به سبحانه، فخمس مراتب: العلم بذاته سبحانه وأنها لا تشابه ذات المخلوقين:} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ(11) { [سورة الشورى] . مع عدم التفكر فيها؛ لورود النهي عن ذلك. والعلم بصفاته: كما وصف نفسه، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم . والعلم بأفعاله، وأسمائه، وتنزيهه عما لا يليق به.
والعلم بدينه مرتبتان:
إحداهما: العلم بما شرع الله عز وجل من أوامر ونواهٍ وحدود وواجبات ومحرمات. وهو الصراط المستقيم الموصل إليه، فلا يمكن فيه إلا بمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: الاعتقاد بالجزاء المتضمن ثوابه وعقابه، ويدخل في هذا العلم: العلم بملائكته وكتبه ورسله.
وأما مراتبها العملية فمرتبتان :
مرتبة للمقتصدين، ومرتبة للسابقين بالخيرات.
فأما مرتبة المقتصدين: فأداء الواجبات، وترك المحرمات، مع الإسراف في المباحات، وارتكاب بعض المكروهات، وترك بعض المستحبات.
وأما مرتبة السابقين: فالقيام بالواجبات والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم، متورعين عما يخافون ضرره، وقد انقلبت المباحات عندهم إلى اعات وقربات بالنية. ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله.
من [سلسلة رسائل فتيان الدعوة] :" أولويات في تربية الناشئة"
بإشراف: الشيخ/ جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين.. الشيخ/ أحمد بن عبد العزيز القطان.
اضف تعليق لنستمر في جهدنا